جماعة التبليغ: التكليف بين التبعية الأزلية وتقديس الولاء
المهندس: حسام رمضان امين
نجحوا في أن ينفردوا بمنابر ساحات المساجد وقتما شاءوا وأينما أرادوا من مشارق الأرض إلى مغاربها، في حين أن الدارسين والغائصين في التنمية البشرية يقومون بحجز القاعات الخاصة وتغطية تكاليفها من جيوبهم الخاصة، وزيد على ذلك إعلانات وترويج ودعاية لبرنامج سيادته المجاني؛ بغية في اتساع ساحة صيته.
بين يسر التهيئة عند هذا وعراقيلها عند ذاك.. هل أجادت (جماعة التبليغ والدعوة في مصر) في دعوتها لدى (جميع طبقات المجتمع المسلم) وَفق أسس ومناهج ترسخت؟ أم أن للتبعية والولاء لابد من قدسية، قد يوديان بالمنابر للا قيمة.
أدعوك لنتفق سوياً؛ إن الجهد والحركة والبساطة في الحديث والسلوك فحسب وتصحيح النية أيضاً شرط، ولكن ليس بوجود الشرط يتحقق المشروط، في حين أن تحقق المشروط لابد له من وجود شرط آخر.
كما أن نظرة المجتمع قد تختلف عند طبقاته لِما يبدو جلياً عن (جماعة التبليغ) عند بعض الطبقات وما يخفى عند الطبقات الأخرى، يكمن هذا.. بل -ولأن لفظ “الكمون” هو ما لا يحوي سواه- على العكس فإن الموضوع مفتوح تماماً، فدعونا نذكر أن هذه النظرة مثلا منبعها (الأصل في النشأة، والمنهج، والعلم والعلماء، والتجديد والتطور، والثوابت الأمنية والثوابت الأخرى، وجهد الحركة جانباً للهيئة، وأُخر..)
أيضاً بالطبع نتفق أن كل عنصر من تلك العناصر عندما يبدي اللفت والامتنان والإعجاب أو العكس من النقد والاشمئزاز عند إحدى الطبقات فهو بالضرورة غائبٌ أو غائبة أهميته عند الطبقة الأخرى.
الآن النشأة والأصل؛ كانت نشأة الجماعة هي الأسبق بين الحركات الإسلامية الأخرى، فقد نشأت على أرجح الأقوال سنة 1920 في الهند على يد (محمد إلياس الكاندهلوي)، ولكن من الظلمات التي يتناغصون أن حقيقة عمل اليوم -الدعوة- لا تمت بصلة لقديم ما نشأت وخلقت منهجهاً له؛ أي منذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضي توجهت هذه الجماعة للعالم الإسلامي، ذلك بعدما كان من المفترض أن يرجع أصل نشأتها كحركة إلى إيقاظ الشعور الديني لدى الأقلية المُسلِمة “المضطهدة” في الهند إبان الحكم البريطاني، هذا جانب إلى كل ما نسب للأعجمي -أصلاً- (محمد إلياس الكاندهلوي) من شبهات والتي لطالما كل شبهة يواليها رد.
أما المنهج والجماعة؛ فبينهما حجاب إلى يوم يبعثون، تكمن المسيرة الدعوية عند جماعة التبليغ والدعوة في أصل كتابين وحِيديْن؛ الأول منها، “حياة الصحابة” للأعجمي -محمد بن يوسف الكاندهلوي-،وهو مملوء بالقصص المكذوبة والأحاديث الموضوعة والضعيفة، جانباً إلى أن قال عنه الشيخ الألباني -رحمه الله-: (الذي ألف هذا الكتاب ليس فرداً من أفراد جماعة التبليغ، بل هو رأس إن لم يكن فهو رأس الرؤوس، ألف هذا الكتاب والجماعة ينطلقون على هداه، ولكن هذا الكتاب جمع ما هبَّ ودبَّ، أي لم يخصص هذا الكتاب بأن يذكر فيه ما صح أولاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ككلام غيره من الناس ولو كانوا أولياء وصالحين، ثانياً؛ من حيث ذكر روايات كثيرة عن الصحابة رضي الله عنهم فيها أيضاً من باب أولى)
وفي ذلك قال شيخ أئمة الإسلام بن تيمية -في نفيس كلامه-: ( إن على كل باحث أن يتثبت في كل ما يرويه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما يتثبت فيما يرويه عن الله ورسوله).
حتى أصبح مصب هجوم كثير من العلماء وفئات كثيرة من المجتمع عليهم، كما أن اللفظ (منهج) في رأيي لا يتماشى مع تبعية الجماعة الأزلية وقدسية الولاء التي هي عند الجماعة، لذا يتوقف صحة استخدامه اصطلاحاً عندهم عما إذا كانت الجماعة هي تسير بتوجيهات أزل الرؤوس أم بمنهج تعليمي وتربوي منطلقه هو صحيح ما جاء في الأثر والسيرة؛ فكتاب كحياة الصحابة- سار فيه مؤلفه راغِبا لِما أُلِّفَ من أجله؛ فكما سبق ذكر أنه من المفترض أن يرجع أصل نشأتها كحركة إلى إيقاظ الشعور الديني لدى الأقلية المُسلِمة “المضطهدة” في الهند إبان الحكم البريطاني، وتحولت خلال القرن الماضي إلى “ظاهرة عالمية”، وإن كان هذا ليس مبرراً لوضعه بهذه الطريقة أو بخلاف ما ثبت صحته بين الكتاب والسنة، ليتماشى مع أهل السنة -لا البعيدين عن الدين- فمن الظلم والبهتان أن نَحْمِلَ الناسَ والمسلمين على كتاب لم يؤت بمجامع السيرة وما يشوب حياة الصحابة -رضوان الله عليهم- بالأخطاء بل بالابتداع وخيال القصص التي لم تثبت.
أما عنصرا العلم والاجتهاد؛ فقد طغى عليهما جهد الحركة وبسط الجناح عندهم، هذه الجماعة المسكينة كثيراً ما تفتقر التسلح بسلاح العلم، ولكن عن همم الجهد والحركة فالفرد في الاستعداد التام لسحب سيارة فورمولا عُقُلِها محكمة على جانبيه من مشارق الأرض إلى مغاربها.
أما العلماء وأصحاب العلم؛ فهم وسطهم الوفاد والأقلية ولهم كل ظاهر التعظيم، وأعتقد لو ودَّ الفالح من بينهم المساس بالثوابت يصبح وقتئذٍ النشاز والطالح، فالدور منبثق تحت اللوائح والنصوص، لا يتعداه.
فما إن سمع بعضهم نصحاً مشوباً بحثيثٍ من الهجوم بدافع النزعة والغيرة الدينية تنغمت الألسنة بنغمة: “كما كان الصحابة يفعلون..”، بينما الصحابة لم يوصف من بينهم الجاهل، فجميعهم تفرقوا في الأمصار بعد أن تهيأوا وتهيأ لهم العلم؛ بغية نشره وتكليفه، ولعل ها هنا يظهر إنصافهم -رضوان الله عليهم- في قصة “مالك” مع الخليفة عندما أراد الخليفة أن يَحْمِلَ المسلمين على موطئه ،قال: “يا أمير المؤمنين إن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- تفرقوا وعند كل واحد ما ليس عند الآخر، فأنا ربما أكون أدركت شيئاً وغابت عني أشياء موجودة مع صحابيٍّ ذهبَ للكوفة، وأنا لم أرحل إلى الكوفة”.
ولكن بعضاً منهم مِمن ولوا للثوابت والنصوص واستدبروا للعلم هم رؤوساً حمقى، فقراء ليست لديهم هِممَ الاجتهاد والإضافة.
معذرةً.. فالعجز عن الاجتهاد والإضافة لا يعني التفرد والإلزام.
أما الثوابت؛ فلعلها تبخل عليهم بالتجديد والتطور إلى بناء معاقل التأهيل التربوي والدعوي وفتح ساحات العلوم الشرعية بشتى أنواعها للمقبلين لتخدمهم، فالرؤوس تلزمهم بعدم الاشتغال بطلب العلم الشرعي لأنه سيشغلهم عن العمل الأهم من وجهة نظرهم ألا وهو (الدعوة)، فليس لها الدور لكي تخدم العمل لِما ورد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه عنه “عبدالرحمن بن أبزى” والذي توعد فيه بالعقوبة العاجلة لتارك التفقيه لَما اختتم فيه (والله ليعلمنَّ أقوام جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم أو لأعاجلنهم العقوبة). زيدٌ على ذلك أصبح مفهوم الحد من الخلافات الفقهية يعني عدم التكلم في أي من الأمور أصلاً حتى ولو ثبتت عن جمهور العلماء وليس فيها اختلاف، فيخشى مِن بينهم مَنْ يتحدث ويجرؤ على إقامة حلقات تعليم القرآن وجلسات مما تَيسَّر من الفقه (فقه العبادات)، فأيُ منهج هو إن صح وثبت الولاء وترسخت قداسة الرؤوس!
الآن من هنا أصبح سقف آمال رؤوس هذه الجماعة هو الحركة بين مشارق الأرض ومغاربها وفق منهج البساطة النابع من (علم الفطرة)، ولكأن الشاعر كان يقصد أن يواري بها حينما قال:
وأخو الجهالة في الحياة كأنه.. ساعٍ إلى حربٍ بغيرِ حِسَام!
ولكن للإنصاف؛ فلعل من بين هذه الجماعة الذي يفهم ويدرك أن العمل هو منهج و مأثر وظيفة النبي -صلى الله عليه وسلم- لما يظهر في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ،بل هؤلاء الذين لا نريدهم أن ينقضوا.
إلى الآن ما بين رسالات متناثرة فخالص الرسالات التي أسوقُها إليكم؛ حيث سبقت لها النداءات من كبار علماء العصر وهي أن “العلمَ ليس طاغوتاً، ولا هو صنم يُعبد”.
بل اغزوا معاقل العلم غزواً ولا تتركوا حديث ألسنتكم (كلم الفطرة) علامةً للبساطة عند طبقة العوام والبسطاء، لا تدعوا التبدعَ وضيقَ الأفق والفكر والتربص على فراش الجهل يفسد هممكم، عليكم أنفسكم ولا تكونوا كالذين تربصوا وارتابوا وغرتهم الأماني.
وبهذا أيها الأفراد منهم والمقبلون: لا تكونوا ولائيين بل كونوا منهجيين، فقديماً كانت تعلمنا مدارسنا (بُنيَ الإسلامُ علىَ خمسٍ) ليس من بينهم الرؤوس والجماعة، ولا الكيانات.
“وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ”