التواصل الثقافي بين الحاضرة الإسماعيلية و الزاوية الشرقاوية
الدكتور أحمد بوکاري الشرقاوي
ضمن أعمال ندوة الحاضرة الإسماعيلية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس
متابعة/مؤنس الشرقاوي
♦️تمهيد
اظهرت بعض الدراسات التاريخية في الآونة الأخيرة مدى شمولية الإسهامات الفكرية لمختلف مناطق المغرب وان فكرة هيمنة المد.- سلطانية على حركية التاريخ – كمجتمع وفكر -. ليست مقصودة لهدف علمي خالص، بل تتجاوز ذلك إلى ترسيخ قناعة مقنعة، تريد أن تسلب التاريخ الوطني وحدته وتكامله من خلال العمل الذي أنجزته في موضوع «الزاوية الشرقاوية» (2) والذي أبرزت فيه بعض أدوارها وإسهاماتها على المستوى
المحلي أو الوطني، تبين فعلا أن لاحدود للتواصل والترابط بين جهات البلاد وعلى مختلف المستويات، وهي الخلاصة التي يمكن استنتاجها من العديد من المؤلفات ذات الطابع الفكري أو الروحي الصوفي مثل كتب الطبقات والتراجم أو الفهارس…
سأحاول من خلال هذه المساهمة، إبراز بعض جوانب هذا التواصل من خلال مكناس كعاصمة للمغرب في العهد الاسماعيلي (1084- 1139 =1672- 1727 ) وزاوية أبي الجعد الزاوية الشرقاوية المحج الروحي لقبائل تادلا وما جاورها من بلاد الشاوية ومنطقة الدير الأطلسي، مع التركيز على شخصية محمد الصالح الشرقاوي، شيخ الزاوية المعاصر للسلطان العلوي مولاي اسماعيل، بل إن هذا الشيخ توفي في نفس السنة التي توفي فيها مولاي اسماعيل (1139 ه = 27 – 1728 م).
ترجع أهمية تادلا – موطن الزاوية – الى الدور العام الذي لعبته عبر مختلف أطوار التاريخ المغربي، باعتبارها ممرا تجاريا وبشريا بين شمال البلاد وجنوبها، وهو ما ترك آثاره على الخريطة البشرية للمنطقة إلى الآن. كما كانت لها أهميتها خلال الفترات السياسية العصيبة، والمتمثلة في ضعف السلطة المركزية أو الصراع على الحكم بين الشمال (فاس) والجنوب (مراکش) كما هو الشأن خلال النصف الأول من القرن 10ه/16م بين السعديين والوطاسيين، لقد اهتمت الكتابات الأجنبية وبهذه المنطقة الجبلية بصفة خاصة،
مستهدفة من وراء ذلك إبراز حالة عدم الاستقرار كحالة مزمنة في البناء السياسي المغربي والحالة هذه أن واقع هذه القبائل وغيرها يجب أن يربط بظروفها من الناحية الجغرافية والاقتصادية والتي لها ارتباط وثيق بعدم استقرار مصادر عيشها تبعا لعدم استقرار خريطة المغرب البشرية خلال عصور طويلة، بالاضافة الى عامل المناخ الحاسم.
في هذه المداخلة، سأهتم بجوانب أخرى أكثر رسوخا وصمودا، وتتعلق بالجانب الفكري الروحي والذي مثلت فيه الزاوية الشرقاوية بالمنطقة نموذج أو عنصر الاستمرار، ذلك أن منطقة تادلا لم تكن فقط معبرا جغرافيا وبشريا فحسب، ولكن تمثل نقطة ربط وصلة بين مختلف التيارات الفكرية السائدة في شمال
البلاد وجنوبها، ولعبت فيها زوايا المنطقة دورا حاسما، سيما زاوية الصومعة ببني ملال الحالية (3)، والزاوية الدلائية في اتجاه الشمال عبر طريق فاس (4)، ويأتي تأسيس الزاوية الشرقاوية في موقع متوسط بينهما، كتأكيد أهمية هذه المنطقة والتي قال عنها صاحب اليتيمة :
«إن أكثر بلاد الله أولياء تادلة في الغالب، وأن الأولياء يفرون إليها من أوطانهم كما تفر الابل إلى بلد الرعي….» (5).
♦️أهمية الزاوية الشرقاوية في العهد الإسماعيلي :
من المعلوم أن تأسيس الزاوية الشرقاوية يعود إلى نفس الفترة التاريخية التي تم فيها تجديد هيكل البلاد السياسي على يد الاشراف السعديين خلال النصف الأول من القرن 10ه – 16م. وإن مؤسس هاته
الزاوية هو الشيخ الصوفي:
أبو عبيد الله محمد بن أبي القاسم المشهور ب «الشرقي» والذي تنسب اليه السلالة والزاوية الشرقاوية التي يوجد مقرها بأبي الجعد قريبا من قصبة تادلا (6) عاصر الشيخ الشرقي فترة التأسيس والتدعيم للحكم السعدي، وتوفي قبيل وفاة أحمد المنصور الذهبي ببضع سنوات (توفي الشرقي سنة 1010 ه)
ويتزامن تأسيس حكم الأسرة العلوية الشريفة، باستعادة الزاوية الشرقاوية السابق إشعاعها الديني والعلمي بعد فترة من الاضطراب تقترن زمنيا باضطراب أحوال المغرب خلال النصف الأول من القرن 11ه – 17 م وإذا كان للسلطان مولاي اسماعيل الفضل في استقرار الأوضاع بالمغرب، فقد كان لشخصيته أي عبد الله محمد الصالح الشرقاوي شيخ الزاوية أنذاك الفضل في إعادة تعمير الزاوية واستئناف أنشطتها المختلفة وترجع أهمية هذه الشخصية الصوفية إلى ما يأتي :
جاء في كتاب النزهة للأفراني ما يفيد الإقرار الصريح والاعتراف الواضح بدور شيخ الزاوية محمد الصالح في تأليف الأفراني لهذا الكتاب الهام في إطار مساعدات الزاوية لأهل العلم ورعايتها لهم، كما نستنتج شهرة هذا الشيخ لا كفقيه وصوفي فقط بل وأيضا كأديب له باع وملكة في لغة القوم(8).
تجمع المصادر على أن الزاوية في عهد هذا الشيخ اكتسبت شهرة وإشعاعا على المستوى الصوفي والعلمي بصفة خاصة، وأنها ساهمت بقسط وافر في إشاعة التعاليم والثقافة الإسلامية في وسط كان في أمس الحاجة الى ذلك بسبب بعده عن مراكز الثقافة التقليدية. تؤكد نفس المصادر على المكانة الهامة التي أصبحت تحتلها الزاوية على المستوى الوطني، وهو ما انعکس على العلاقات الطيبة والوطيدة بين شيخ الزاوية والسلطان مولاي اسماعيل والتي ترددت أصداؤها- كما سنرى- من خلال علاقات الزاوية بأعلام ورجالات الحاضرة الإسماعيلية سواء تعلق الأمر بعلاقات الزاوية وشيخها بكبار العلماء والفقهاء أو رجالات التصوف.
♦️ملامح من التواصل الديني والثقافي بين الزاوية والحاضرة الاسماعيلية :
🎖أ- في ميدان التصوف :
تعددت مصادر تصوف الشيخ محمد الشرقي مؤسس الزاوية، بيد أن من أبرز شيوخه:
– أبي عبد الله محمد بن عمر المختاري(9) عالم فاس زمن السلطان مولاي عبد الله الغالب السعدي وقد أخذ ابن عمر
التصوف على شخصية مكناسية لها أهميتها البارزة في تاريخ التصوف المغربي وأعني به الشيخ محمد بن عيسى
الفهدي المتوفي 940 ه (10). وهذا أخذ بدوره عن الشيخ أحمد الحارثي المكناسي المتوفي 910 ه(11).
بيد أن روابط الزاوية الصوفية بالمراكز الشمالية خاصة مكناس لم تقتصر على الأخذ بل وأيضا العطاء والتفاعل، ذلك أن الشيخ الصوفي الكبير – سيدي أحمد ابن خضراء المكناسي (المتوفي 1075)، والذي يعتبر من أعلام الملامتية بالمغرب (12)، تتلمذ وسلك طريق القوم على يد أحد أبناء الزاوية البارزين هو الشيخ
سيدي عبد السلام بن الشيخ محمد الشرقي، فيكون قد أخذ عن الشيخ الشرقي بواسطة.
وإذا أردنا أن نوسع الاطار الجغرافي في نحو أحواز مكناس، نجد أن الشيخ سيدي قاسم السفياني والمعروف ب «ابن للوشة» والذي هو أحد أعلام التصوف في الغرب، قد تتلمذ على أحد أبناء الزاوية وهو الشيخ محمد الغزواني ابن الشيخ محمد الشرقي(13).
وتختم هذه اللائحة نذكر علم آخر وهو سيدي علي بن محمد المدعو «حمدوش» دفين زرهون، والذي سلك بدوره طريق التصوف على يد الشيخ سيدي محمد الحفيان بن المفضل أحد حفدة الشيخ الشرقي.
♦️ب – في الميدان الثقافي :
وأقصد ماله علاقة بالعلوم الشرعية تمييزا لها عن علم الحقيقة (التصوف)، بيد أن الزاوية المغربية – ومنها الزاوية الشرقاوية جمعت بين مهام عديدة متكاملة ومنسجمة، فبالاضافة إلى التربية الروحية، اهتمت الزاوية بنشر وبت تعاليم الدين الاسلامي الحنيف فقامت بدور الجامع والمدرسة العلمية سيما في المناطق النائية… وقد أكد شيخ الزاوية الشرقاوية محمد الصالح على أهمية علم الشريعة باعتباره القاعدة الصلبة التي يجب أن يقام عليها كل بناء صوفي فمن ينصح تلامذته ومريديه : “وعليكم بالعلم، فالعلم زينة الفقر وعماده وفراشه وغطاؤه ووساده. وفقر (أي تصوف) بلا علم فضيحة ومكر وخديعة….. فهو ظلمة بلا سراج…”.
وتحفل مصادر الزاوية بأسماء العديد من الشخصيات العلمية الصوفية والتي جمعتهما بالزاوية وأشياخها روابط شتی… وسأقتصر على البعض من أعلام الحضرة الاسماعيلية:
🏅1- الفقيه أحمد بن فتوح التازي،من كبار تلامذة العلامة سيدي سعيد بن أبي القاسم العميري بمكناس زمن السلطان مولاي اسماعيل ومن مكناسية انتقل في مهمة علمية إلى قصبة تادلا، وهناك بدأت علاقاته العلمية والصوفية بالزاوية وشيخها محمد الصالح (15)
🏅2 – أحمد بن عبد القادر التستاوتي (16) : من كبار علماء وأدباء ومتصوفة العهد الاسماعيلي، استقر بمكناس إلا أنه كان كثير التردد على الزاوية
وشيخها ومن المساهمين في تعمير حلقات العلم والدرس بها، وهو العمل الذي واصله. من بعده أخوه العياشي التستاوتي في عهد الشيخ محمد المعطي الشرقاوي (17) صاحب التآليف الصوفية الخالدة والمعروفة بمصنفات “ذخيرة المحتاج في الصلاة على صاحب اللواء والتاج”(18)
🏅3 – عبد القادر بن شقرون المكناسي
فقيه وأديب ولغوي، إلا أنه اشتهر بثقافته الطيبة، عاش زمن السلطان مولاي اسماعيل وهو من الشخصيات المقربة اليه، قضى وقتا ليس باليسير في رحاب الزاوية الشرقاوية، مساهما في تعزيز وتنويع المواد العلمية المدرسة بالزاوية وهو ما نستفيده من النص التالي:
“فأخذت في تدريس علم النحو لبلوغ القصد ومن التصريف كمال التصرف في الأمور ومن الطب النافع الانتفاع وانشراح الصدور … فمكثت عنده (أي عند الشيخ محمد الصالح تلك المدة باركة التي الايأتي بها زمان، ولا يعادلها وقت ولا أوان”.
وبطلب من شيخ الزاوية كتب ابن شقرون أرجوزته الطبية الهامة ومن الصدف أن يظل تاریخ وفاة ابن شقرون مجهولا إلى أن تم الكشف عنه بواسطة أحد مصادر مؤلفات الزاوية وأعني به كتاب يتيمة العقود
الوسطى (19).
لقد عرف عن الشيخ محمد الصالح شغفه بالعلم وتعلقه بالعلماء، وأنه بدل في سبيل جلب الأطر العلمية للزاوية جهدا كبيرا، بل إنه وضع أسس تقالید علمية بالزاوية، من ذلك : حفل الختم، وعقد ندوات علمية على مستوى منطقة تادلا برمتها، يستدعي لها كبار علماء العصر… فلا عجب إن كان من بين هؤلاء عالم الحاضرة الاسماعيلية الشيخ العالم الحسن بن رحال المعداني التادلي، الذي كان يدعی ب «صاعقة العلوم والتدريس». جاء في كتاب اليتيمة.
«فاجتمع عليه خلق كثير من طلبة العلم من أهل الصومعة وقشتالة ونواحي تادلة من الجبلوالوطا » (20).
مما سبق، يمكن استنتاج ما يلي :
إن التعريف ببعض جوانب التواصل الثقافي بين زاوية من زوايا المغرب، وبين حاضرة البلاد مكناس الاسماعيلية يقصد منه :
التأكيد على أهمية الزوايا ودورها في التاريخ الوطني ليس فقط من خلال اشعاعها الفكري والروحي وتفاعلها محيطها الخاص والضيق، لكن أيضا ربط هذا المجال الجهوي بمختلف التيارات الفكرية داخل
البلاد في إطار تدعيم المشروع السياسي.
إبراز شمولية الاسهامات الفكرية والثقافية لمختلف مناطق البلاد، والتي كان من نتائجها بلورة نوع من الثقافة الموحدة على مستوى اللغة والممارسات الشرعية والصوفية، هذه الوحدة التي لاتتأثر في عمقها بحالات الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي باعتبارها عارضة من العوارض.
إن علاقات عواصم المملكة بمختلف نواحي البلاد، لم تكن علاقات سلبية، كما حاولت أن تكرس ذلك الكتابات الأجنبية، بل علاقات تفاعل همت مختلف المجالات بشريا، اقتصادیا، سياسيا وثقافيا…وهي الجوانب التي يجب أن تهتم بها الكتابات التراثية في محاولة جادة ومستمرة للبحث عن عناصر وعوامل التلاحم داخل المجتمع المغربي عبر مختلف أطوار التاريخ – وليس العكس – هذا التاريخ الذي أثبت استمراريته وعراقته وحضوره وحيويته عبر الأحقاب والعصور.
____________________
الهوامش
(1) د. محمد حجي، : الحركة الفكرية في عهد السعديين (جزءان) في حين أن كتاب الأستاذ محمد الأخضر حول «الحياة الأدبية في المغرب على عهد العلوين (1977) لم يغط إلا جوانب محدودة
من هذا النشاط وهو ما سوف يتم تجاوزه بفضل الأبحاث الجامعية التي تم إنجازها أو التي في طور الانجاز .
(2) أحمد بوکاري : الزاوية الشرقاوية – زاوية أبي الجعد – إشعاعها الديني والعلمي (البيضاء 1985).
(3) الزاوية الشرقاوية :ج 1، ص : 159 – 162.
(4) ذ. محمد حجي : الزاوية الدلائية دورها الديني والعلمي والسياسي الرباط 1964)الزاوية الشرقاوية ص:162- 166.
(5) محمد بن عبد الكريم العبدوني: مخطوط يتيمة العقود الوسطى، ص 139.
(6) الزاوية الشرقاوية : ص : 67 – 80 .
(7) الزاوية الشرقاوية : 103 – 108.
(8) محمد الصغير الأفراني : نزهة الحادي… (هوراس) 310 – 311.
(9 ابن عسكر الشفشاوني دوحة الناشر83
(10) ابن عسكر الشاوني :73 – 76
(11) ابن عسكر الشاوني : 14 – 15
(12) الأفراني : صفوة من انتشر، 151 وأيضا الزاوية الشرقاوية 152.
(13) الزاوية الشرقاوية : 153 وحول شخصية محمد الغزواني الشرقاوية . نفسه 99،98،97.
(14) الزاوية الشرقاوية : 133 – 154
(15) الزاوية الشرقاوية : 199-200
(16) الزاوية الشرقاوية :20ol – 201
(17) الزاوية الشرقاوية : 108 – 110
(18) الزاوية الشرقاوية : 260 – 273 حيث أفردت قسما خاصا للتعريف بهذه المؤلفات الهامة
(19) الزاوية الشرقاوية : 205 – 208.
(20) الزاوية الشرقاوية : 209 – 210 وكذلك 220.